الشقيف
ترتفع قلعة الشقيف سبع مائة متر عن سطح البحر، شامخة تتحدى الغزاة منذ بدء
التاريخ، دارت فيها حرب الحضارات قديما، بنيت ودمرت عدة مرات، لكن فيها
عظمة مميزة، تشعر وأنت على حصونها المهدمة وكأن أسود العالم قد حفرت
بأنيابها تاريخها، منذ الشعوب الأولى، ومرورا بكل الغزاة حتى الفرس،
الرومان، الصليبيين، والصهاينة آخرهم، كلهم ماتوا، كلهم اندحروا تحت
أقدامها المغروزة في صخور الشقيف، كلهم انحنوا أمام رأسها الشاخص إلى
السماء، كلهم، رحلوا مذهولين أمام سر هذا الشعب الجنوبي اللبناني العظيم،
الذي قدم فيها الشهداء، لها بعد تاريخي، ترميمها العلمي، الحقيقي، يعني
إعادة كتابة التاريخ المجيد كما هو، وليس كما يريدون.
استخدمت قلعة الشقيف كحصن لسد الثغرات من ناحية البحر كما هو معروف عبر
التاريخ. انتقلت من الخلفاء الأمويين إلى الخلفاء العباسيين فالطولونيين
فخلفاء مصر العلويين فالسلاجقة فالأتابكة من الترك فالصليبين ومنهم ثم إلى
الأتراك فأمراء هذه البلاد الوطنيين.
يعود تاريخ بنائها إلى ما قبل العصور الوسطى، ويعتقد أن (كيران) السائح
الفرنسي الذي زار سورية في القرن التاسع عشر، هو أول من كتب عنها وقام
بالتعريف بأبنيتها ومما كتب: "لهذه القلعة مدخل واحد من الجنوب، وشكلها
مثلث الزوايا، وقياسها
(160)
مترا طولا و(100)
متر عرضا، يحيط بها من بقية جهاتها آبار منقورة في الصخر، ويحميها من الجهة
الشرقية مجرى ماء مهيب يسمى (نهر الليطاني) تسيل مياهه في واد عميق، وفي
الجنوب خارجا يوجد حوض في الصخر، وفي الغرب صهاريج فيها أحواض جمة منقورة
في الصخر الصلد مسقوفة بعقود حجرية وفي الشمال حوض قسم منه منقور في الصخر،
وقسم يقوم عليه بناء، وجدرانها المحيطة بها منحدرة وفي داخل القلعة أحواض
كثيرة كان يجتمع فيها من المياه ما يسد حاجة المحصورين فيها مدة الحصار".
وهي محاطة من الجنوب ومن الغرب بهوة عميقة محفورة في الصخر عمقها
15
مترا إلى
36
مترا. أما من الجنوب فقد تتصل القلعة بذروة الجبل ومدخلها الى الجنوب
الشرقي وطولها
120
مترا وعمقها
35
مترا، ومن طرفها الشمالي بناء ناتئ طوله
21
مترا متجها الى الشرق. وفناؤها في الجهة الشرقية منها عمقه نحو
16
مترا، ومثلها الأبنية الخارجية ولها انحدار يختلف من ستة إلى تسعة أمتار.
وقد قام على الحائط الجنوبي برجان على شكل نصف دائرة. أما القلعة من حيث
البناء فهي مستطيلة وضيقة جدا بحسب الأرض التي بنيت عليها ولا يوجد تناسب
هندسي بين طولها وعرضها”، وأما حجارتها فكلها مربعة الزوايا، إلا انها ليست
بكبيرة كالحجارة في القدس وبعلبك ولا محكمة النحت، ومن جهة الوسط فالحجر
نافر وغير منحوت.
إن مؤرخي العرب لم يتعرضوا لذكر هذه القلعة قبل الحروب الصليبية قبل عام
1189م
ولكن (وليم) أسقف صور تعرض لذكرها قبل هذا التاريخ بعشرين سنة وبعض مؤرخي
الافرنج أعاد ذكرها إلى أبعد من هذا الزمن بكثير، حيث يقال إنها وقعت في
قبضة (فولك) ملك القدس عام
1139م،
ونؤكد بأنها كانت قائمة في عهد الغزوة الأولى الصليبية.
لا نعني بالقطع في قيامها في ذلك العهد إنها كانت عامرة عمرانا تستغني به
عن الترميم وزيادة التحصين فلا بد من إن أيدي الصليبيين امتدت إليها بعد أن
ملكوها وأعادوا ترميمها وتجديدها وأقاموا فيها بناء جديدا يتميز عن بنائها
الروماني القديم وعن بناء العرب. فإن الجهة الغربية قد بنيت قبل الصليبيين،
وليس فيها من بناء القرون المتوسطة إلا آثار قليلة. وبنى الصليبيون فيها
أكثر من الجهة الشرقية. ويرى في الوسط كنيسة لاتينية ذات سقف مؤلف من قناطر
متقاطعة وباب صغير يدخل منه إلى الدار الداخلية. وهناك آثار أبنية يظن إنها
كانت إسطبلات أقامها الصليبيون. وبالقرب من الزاوية الشرقية آثار أبنية
متصلة بأعلى القلعة كانت بمثابة مدخل لها، أيضا وكسائر قلاع القرون الوسطى
في بلاد الشام فيها معبد او مصلى من الجهة الشرقية.
كان أرناط (رينولد) يقضي عمله في تحصينها أثناء الهدنة التي عقدها مع (صلاح
الدين) يوم جاء محاصرا بجيشه الكثيف المجهز بآلات الحصار وأدوات التدمير،
وذكر العماد الاصفهاني اجتماع أرناط بصلاح الدين وظفره منه بامهاله ثلاثة
اشهر لتسليم القلعة “فشرع أرناط في إزالة حصنه وتسليمه لصلاح الدين، وقد
أُعيدت للفرنسيين مع قلعة صفد عام
1240م
باتفاق عقده معهم إسماعيل ملك دمشق بتسليمها لهم على أن يكونوا ظهيرا على
لبن أخيه الصالح أيوب عام 1260 م حيث اشترت فيه رهبنة الهيكليين صيدا
القلعة من يوليانس حاكم صيدا، وبنوا القصر الجديد فيها على ما يظن وهو الذي
ترى انقاضه على بعد بضع مئات من الامتار في الجهة الجنوبية، وبقيت معهم إلى
عام
1268
م، وهو العام الذي استولى فيه عليها (بيبرس) بعد حصار شديد. ثم رممت واقيم
فيها عساكر من المسلمين، وهذا أيضا ما ذكره كيران.
وكانت الشقيف قلعتين متجاورتين فجمع (بيبرس) بينهما وبنى بها جامعا وحماما
ودار نيابة، واما الجامع فلا يزال قائما في أعالي القلعة حتى اليوم، واما
الحمام فيظن بعضهم انه كان في حضيض الجبل القائمة عليه، تعاقبت عليها أيدي
ملوك مصر والشام. ولم تفقد شيئا من حصانتها من عهد استيلاء بيبرس عليها إلى
عام
1400
م واستمرت إلى ذلك القرن متماسكة ممتنعة علي المتغلبين ملجأ للهاربين. ثم
كانت بيد الامير فخر الدين المعني الثاني الذي رحل إلى اوروبا، دكها الحافظ
بجيشه القوي، وحاصرها ستين يوما كان فيها اطلاق المدافع متتابعا بلا انقطاع
ولكنه لم ينل منها مأربا. ورفع الحصار عنها بعد اتفاق ابرمته معه والدة
الأميرين المعنيين فخر الدين ويونس.
هدمت كباقي القلاع على يد اليازجي الذي توجه مع مصطفى كنخداويب كيربك
والامير يونس الحرفوش إلى القلاع وبعد اخراج ما فيها استحضروا بنائين
وهدموها واستمروا في هذا العمل نحو اربعين يوما وكان ذلك عام
1616م.
وفي ذخائر لبنان ان الأمير علي بن الأمير فخر الدين هو الذي هدم قلعتي
ارنون وتيرون. وفي بداية القرن السابع عشر (الميلادي) أوجد فيها فخر الدين
المعني بعض الاصلاح واهملت من ذلك الوقت، واما المؤرخان الأمير حيدر
الشهابي وصاحب أخبار الأعيان فقد طوبا اسم هذه القلعة وحديث تعميرها
وتدميرها وما منيت به من الأحداث من عام
1616م
إلى عام
1769م.
ولقرن ونصف القرن تداولت خلالها أحكام البلاد المنسوبة اليها (بلاد الشقيف)
بين الحكام الاقطاعيين امثال الشيخ ناصيف النصار، وبنو سودون وآل الصغير
والسادة الشكرية وآل صعب وآل منكر. وآل الزين، وقال الشيخ علي رضا وهو ممن
كتبوا تاريخ ذلك القرن بلغة عامية “ان الصعبية قبضوا عام (1744م)
على الشيخ محمد فارس ووضعوه في قلعة ارنون”، وأما ازدهار عمران قلعة الشقيف
واستعادة سابق مجدها فقد كان زمن الشيخين علي وحيدر ابني أحمد بن حيدر بن
فارس عام
1738م
كما سبق البيان إلى عام
1780م،
حيث استولى الجزار على قلعتي تبنين وهونين وقتل ناصيف واخاه ابا حمد، وبعد
محاصرة الشيخ حيدر الفارس في قلعة الشقيف شهرين استولوا عليها سلما وصادروا
كل ما في القلعة وهدموها.
وسنة
1837م
هدم أعلاها بالزلزال وفقدت اهميتها وأخذ اهالي النواحي المجاورة ينقلون
حجارتها فيبنون بها بيوتهم. وصارت تلك القلعة العظيمة وقاعاتها الجميلة
التي كانت مسكنا للأمراء والاشراف خرابا ومأوى للرعاة والماشية، ويقال ان
باب قلعتها الحديدي العظيم نقل منها الى عكا زمن الجزار الذي جعله باب
المدينة، كذلك نقل الشيخ حسن الفارس الصعبي جانبا من احجارها الملونة الى
قريته البابلية زين بها بعض المباني التي احدثها فيها.
وهي أقل ليونة من حجارة القدس، ولذلك فقد اثرت فيها العوامل البيئية ومن
تأثيرات العوامل الكيميائية، وكذلك عوامل اخرى مثل: الحرب والحرائق اثناء
الاحتلال الحديث.
ويزعم بعضهم ان من آبائهم من شاهد بأم عينه مدخل النفق الذي يصل الى
الليطاني ومشى فيه مسافة عشرات الامتار ولم يبلغ نهايته. واما آخر حصار
شهدته هذه القلعة كان قبل ضربها بالطيران من قبل اعداء الحضارة ومزوري
التاريخ الصهاينة الاسرائيليين، الذين اندحروا عنها هربا بعد ان اغاروا
عليها في الساعة الحادية عشرة والنصف من ليل
24
أيار من العام
2000.